عالم الفائدة السلبية.. كيف تؤثر على الاقتصاد والمواطنين؟
ظاهرة الفائدة السلبية، هي حالة اقتصادية غير تقليدية، حيث تكون معدلات الفائدة الأسمية تحت الصفر. أى ، بدلًا من ان يحصل المودعين عائدًا على إبداعاتهم لدى البنوك، فإنهم يكونوا على العكس ملزمون بدفع الفائدة للمصارف مقابل الاحتفاظ بأموالهم. وهذا هو الشكل التقليدى المعلوم لمفهوم الفائدة السلبية.
حقيقة الأمر أن هذا ليس هو الحالة الوحيدة، ولكن العائد السلبي يمكن أن يظهر في سيناريوهين مختلفين ، أولهما هو الفائدة السلبية الاسمية كما ذكرنا سابقًا، وثانيهما العائد السلبي الواقعى الذى يظهر كأحد تداعيات أو أعراض التضخم، ويحدث عندما تكون معدلات الفائدة الاسمية أقل من معدلات التضخم. في هذا السيناريو، تكون الفائدة التي يحصل عليها المودعون من ودائعهم أقل من معدل تضخم الأسعار، مما يعني أنهم يفقدون القوة الشرائية لأموالهم مع مرور الوقت. هذا يعني أن القيمة الحقيقية لأموالهم تتناقص على الرغم من أنهم يحصلون على فائدة اسمية كبيرة، وعلى سبيل التوضيح إذا كان لديك وديعة بمعدل فائدة 20 % سنويًا، ولكن معدل التضخم السنوي هو 30 ٪، فإن القوة الشرائية لنقودك تنخفض فعليًا بمقدار 10 - ٪ سنويًا (معدل الفائدة الاسمي 20 % مطروحًا منه معدل التضخم 30 ٪). وبعبارة اخرى الفائدة السلبية كظاهرة اقتصادية تحدث عندما يكون معدل التضخم أعلى من معدل الفائدة السائدة، مما يؤدي إلى تقليل قيمة الأموال المودعة. وتعد هذه الظاهرة تحديا كبيرا للبنوك المركزية وتتطلب استراتيجيات وسياسات فعالة للتصدي لها والحد من آثارها السلبية على الاقتصاد. ومن المهم فهم اسباب حدوث هذه الظاهرة وتحليل طبيعتها لتطوير استراتيجيات فعالة لمكافحتها.
و تختلف اسباب ظهور وتواجد الفائدة السلبية فى بلد ما ، فالفائدة السلبية الاسمية التى يدفع فيها المودع للبنك عائد بدلا ان يحصل هو على عائد لها اسباب ، ومميزات ، وعيوب ، تختلف عن النوع الثانى الذى يولد فى سياق التضخمً ! النوع الاول يكون مرجعة السياسة النقدية للبنك المركزى، حيث يتبنى هنا المركزى سياسة تيسيرية فائقة التحفيز للنمو الاقتصادى، فالبنك المركزى هنا فى الغالب ليس لدية اى فجوات أو قصور فى السيولة، واسعار الصرف تكون فى الغالب مستقرة، وايضًا والأهم، أن معدل التضخم السائد يكون فى حدود مستهدفاته الموضوعة، وان الميل الحدى للادخار اكبر من الميل الحدى للاستثمار، هنا فى مثل تلك الظروف والعوامل تكون ظاهر ة الفائدة السلبية متوافقة تماما مع السياسة النقدية المحفزة للنمو الاقتصادى، وتتوافق مع مصالح غالبية العملاء والمستثمرين ، لان الفائدة السلبيه هنا تجعل التمويل اللازم للأنشطة الاقتصادية رخيصًا، وتهدف إلى تشجيع الأفراد والشركات على الاقتراض والإنفاق، بدلًا من توفير الأموال وإيداعها فى البنوك، مما يحفز ويعزز النشاط والنمو الاقتصادي ، وتجعل معدلات الفائدة السلبية القروض أرخص سواء للشركات او الأفراد مما يمكن أن يؤدي إلى زيادة الاستثمار التجاري والإنفاق الاستهلاكي، وبالتالي دعم النمو الاقتصادي، كما تؤدى الى تقليل تكلفة الدين ، الفائدة السلبية بهذا المعنى تعني أن الحكومات يمكن أن تقترض بأقل تكلفة، بل وربما تحصل على مدفوعات من الدائنين على الأموال التى يودعونها فى المصارف.
ولكن هناك عيوب ايضا لظاهرة الفائدة السلبية فالفائدة السلبية يمكن أن تثبط الأفراد عن الادخار، مما قد يضر بالفئات التي تعتمد على دخل الفوائد من توفيراتهم ، و قد يلجأ الأفراد إلى سحب أموالهم من البنوك والاحتفاظ بها نقدًا لتجنب دفع الفائدة، مما قد يؤدي إلى انخفاض السيولة المصرفية، كما يمكنً أن تؤدي الفائدة السلبية إلى تأثير سلبي على ربحية البنوك، مع تقليل هوامش الفائدة بالنسبة للإقراض والاقتراض.
وهناك نماذج متعددة تاريخيّة لدول مختلفة كانت أو مازالت أو فى عصرنا الراهن حتى الآن تطبق الفائدة السلبية، ومن اشهر تجارب أو النماذج التاريخية او الحالية نجد على سبيل المثال وليس الحصر ، بنك اليابان الذى كان من أوائل البنوك المركزية التي طبقت سياسة الفائدة السلبية في محاولة لتحفيز الاقتصاد ومنع الانكماش، وفى الاتحاد الاوروبى وايضا البنوك السويسرية والسويدية والدنماركية، قامت بتبني سياسة الفائدة السلبية في فترات متفاوتة لمواجهة تحديات اقتصادية مختلفة ومنوعة.
أما النوع الثانى لظاهرة الفائدة السلبية فيظهر بوضوح حين يتفوق معدل التضخم،على معدل الفائدة السائدة، مما يؤدي إلى أن تفقد الأموال المودعة اجزاء من قيمتها وقوتها الشرائية، كما سبق أن أوضحنا. وتعود أسباب حدوث الفائدة السلبية فى هذا النوع، إلى عدة عوامل منها السياسات النقدية للبنوك المركزية، والتغيرات في الظروف الاقتصادية والسياسية، وأحداث عالمية مثل الأزمات والصدمات المالية المحلية والدولية، ويتطلب فهم أسباب تلك الظاهرة تحليلا دقيقا لضبط السياسات والاستراتيجيات اللازمة لمعالجتها .
والعائد السلبي الواقعي يمثل تحديًا كبيرًا، خاصة في فترات التضخم المرتفع. وللتعامل مع هذه الظروف، يحتاج الأفراد والمؤسسات إلى استراتيجيات استثمار مبتكرة ومرنة، بينما تعمل البنوك المركزية والحكومات على تحقيق استقرار اقتصادي أكبر. نعم، هناك العديد من الدول الناشئة أو النامية التي واجهت مشكلة العائد السلبي الواقعي، حيث يكون معدل التضخم فيها أعلى بكثير من معدلات الفائدة الاسمية المقدمة على الودائع. وهناك ايضا امثلة متعددة لدول تتجلى فيها ظاهرة الفائدة السلبية الملازمة لمعدل التضخم المرتفع منها مصر والتى قد يصل متوسط العائد السلبى نحو ١٠٪ ويتبنى البنك المركزى حاليا سياسة نقدية فائقة التشدد مستخدما معظم أدواته فقام برفع الفائد خلال النصف الاول من العام الحالى بمقدار ٨٠٠ نقطه اساس منها فى قفزة تاريخية فى السادس من مارس بمقدار ٦٠٠ نقطة اساس بالاضافة إلى فتح سقف ودائع العملية الرئيسية الأسبوعية ليقبل فوائض البنوك، والهدف هو استهداف التضخم ليصل تدريجيا إلى قرب مستهدفاته المخططة وبالتالى تقليص الفجوة السلبية بين العائد ومعدل التضخم تدريجيا، ومن الملاحظ أن معدل التضخم العام والأساسي فى مصر قد بدأ فى التباطؤ خلال الثلاث اشهر الماضية متخذا مسارا هبوطيًا تحت تاثير السياسة النقدية المتشدد. وتعانى الأرجنتين منذ فترة طويلة من معدلات تضخم مرتفعة، والتي غالبًا ما تتجاوز معدلات الفائدة المقدمة على الودائع. هذا الوضع يؤدي إلى نقص حاد في القوة الشرائية للعملة المحلية، مما يدفع المستثمرين والأفراد للبحث عن خيارات أخرى للحفاظ على قيمة أموالهم، مثل الدولار الأمريكي أو الأسهم. هناك ايضا حالة تركيا حيث شهدت في السنوات الأخيرة ارتفاعًا كبيرًا في معدلات التضخم، بينما بقيت معدلات الفائدة المقدمة على الودائع منخفضة نسبيًا. هذا الفارق أدى إلى انخفاض القوة الشرائية لليرة التركية وزيادة الضغط على الاقتصاد التركي. البنك المركزي التركي لجأ في بعض الأحيان إلى زيادة معدلات الفائدة لمحاولة التحكم في التضخم، ولكن التحديات الاقتصادية والسياسية قد تجعل من الصعب تحقيق توازن مستدام.و فنزويلا تعتبر حالة شديدة التطرف من حالات العائد السلبي الواقعي، حيث تعاني البلاد من تضخم مفرط مما يجعل معدلات الفائدة على الودائع الفعلية سالبة بشكل كبير. الأفراد في فنزويلا غالبًا ما يلجأون إلى استخدام العملات الأجنبية أو السلع الأساسية كملاذات آمنة لحفظ القيمة. كما شهدت نيجيريا في بعض الفترات معدلات تضخم مرتفعة تتجاوز معدلات الفائدة الاسمية بسبب التضخم المرتفع نتيجة لعوامل مختلفة بما في ذلك تقلبات أسعار النفط، حيث الاقتصاد النيجيري يعتمد بشكل كبير على عائدات النفط، بالإضافة إلى السياسات المالية والنقدية المتبعة.
وتحاول البنوك المركزية فى الدول التى تظهر فيها ظاهرة الفائدة السلبية بسبب ارتفاع التضخم ، مستخدمة مجموعة من الادوات والاجراءات والسياسات ،أهمها زيادة معدلات الفائدة الاسمية في محاولة لجعل أسعار الفائدة أكثر جاذبية للمودعين وسحب السيولة من ناحية وتقليص التوسع الإتمانى من ناحية اخرى ، وبالطبع تقوم البنوك المركزية المركزية برفع معدلات الفائدة الاسمية إذا كانت الظروف الاقتصادية تسمح بذلك، من أجل جعل أسعار الفائدة تتساوى أو تتفوق على معدلات التضخم ولكن، هذا يجب أن يتم بحذر لتجنب التسبب في تباطؤ الاقتصاد أو التعرض لمخاطر الركود الحاد او الركود التضخمي.
ولذلك تتابع البنوك المركزية تأثير الفائدة السلبية بدقة وتقوم بإجراء تعديلات في السياسات النقدية بناءً على التغيرات الاقتصادية. بل وتقوم بالتواصل مع كافة الأنشطة الاقتصادية، لشرح سبب تبني الفائدة السلبية وكيفية تأثير السياسة النقدية المطبقة على الاقتصاد، وفى بعض الحالات يكتفى البنك المركزى أحيانًا بتطبيق الفائدة السلبية على جزء من الودائع فقط لتقليل التأثير السلبي على البنوك التجارية وتقليل ردود الفعل السلبية من المدخرين. ظاهرة العائد السلبي تمثل تحديًا كبيرًا، للحكومات والأنشطة الاقتصادية والأفراد على حد سواء خاصة في فترات التضخم المرتفع. وللتعامل مع هذه الظروف، يحتاج الأفراد والمؤسسات إلى استراتيجيات استثمار مبتكرة ومرنة، بينما تعمل البنوك المركزية والحكومات على تحقيق استقرار اقتصادي أكبر، حيث يمكن للأفراد والمؤسسات الاستثمار في الأصول التي تحمي من التضخم مثل السندات المحمية من التضخم أو العقارات.
وأيضًا تنويع الاستثمار في أصول مثل الأسهم، والمعادن الثمينة، التي قد تقدم حماية أفضل ضد التضخم.
في الختام، يمكن القول أن التعامل مع مشكلة العائد السلبي الواقعي في الدول النامية يتطلب مجموعة من الاستراتيجيات المتكاملة تشمل السياسات النقدية والمالية، والتنويع الاقتصادي، والتعليم والتوعية،،