مجموعة QNB : هل تدعم مرونة الاستهلاك سيناريو "الهبوط الناعم" في الاقتصاد الأمريكي؟
لا يزال الاقتصاد الأمريكي صامداً أمام الركود الوشيك في ظل الرياح المعاكسة القوية، والتي تشمل ارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، وتشديد معايير الائتمان. في ظل هذه الأوضاع، فإن الإنفاق الاستهلاكي، الذي يمثل حوالي 68% من الناتج المحلي الإجمالي، ظل متماسكاً بشكل ملحوظ، ففي الربع الأول من هذا العام، نما الاستهلاك بمعدل حقيقي سنوي قدره 3.8%. وهذا أعلى بكثير من متوسط 2.5% في السنوات الخمس السابقة لجائحة كوفيد. في الآونة الأخيرة، لا تزال مبيعات التجزئة (المعدلة حسب التضخم) أعلى بما يقرب من 6.8% من الاتجاه الذي كان سائداً قبل الجائحة.
ولكن إلى متى يمكن للأسر الأمريكية مواكبة هذه الوتيرة؟ وكيف ستؤثر هذه الديناميكيات على التباطؤ الاقتصادي؟
في سلسلة من المقالات، سنقوم بتحليل المؤشرات ضمن ثلاث فئات (الإنتاج، والأسر، والمقاييس القائمة على السوق)، لتقييم وضع الاقتصاد الأمريكي وكيفية حدوث التباطؤ. في هذه المقالة، وهي الثانية في سلسلة من المقالات، سنتناول الموضوع من منظور الاستهلاك. وسنبين أن هناك عاملين يستمران في دعم الاستهلاك والهبوط الناعم في الولايات المتحدة. أولاً، لا تزال سوق العمل متينة، وتظل كل علامات التراجع هامشية بالمقارنة مع ديناميكيات الركود النموذجية. في العام الحالي، تحرك معدل البطالة في نطاق يتراوح بين 3.4% و3.7% عند مستوى قريب من الحدود الدنيا التاريخية. في فترات الركود المعتدل نسبياً، مثل ذلك الذي حدث في عامي 1990 و2001، زادت معدلات البطالة بنحو 1.6 نقطة مئوية. في المقابل، خلال الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2008، زاد معدل البطالة بأكثر من الضِعف من 4.6% إلى 10%.
يمكن أن ترتفع معدلات البطالة إما بسبب إلغاء الوظائف الحالية بمعدل أكبر أو نظراً لقيام الشركات بإنشاء وظائف جديدة بوتيرة أبطأ، مما يؤدي إلى اضطرار العمال العاطلين عن العمل إلى قضاء المزيد من الوقت في البحث عن عمل. في الوقت الحالي، لا تُظهر عملية إنشاء الوظائف الجديدة ولا عملية إلغاء الوظائف الحالية إشارات واضحة على تدهور سوق العمل.
فيما يتعلق باستحداث فرص العمل، زادت الوظائف غير الزراعية في المتوسط بواقع 314 ألف وظيفة شهرياً حتى الآن في العام الحالي. وهذا الرقم أعلى بكثير من المتوسط المسجل قبل جائحة كوفيد الذي بلغ 177 ألف وظيفة خلال 2018-2019. ويُظهر استطلاع فرص العمل ودوران العمالة (JOLTS) أنه على الرغم من تراجع مستوى الوظائف الشاغرة بالمقارنة مع الذروة المسجلة في مارس 2022، إلا أنه لا يزال أعلى بكثير من المستويات التي كانت سائدة قبل جائحة كوفيد.
كما أن معدل الاستغناء عن الوظائف الحالية لا يظهر أي علامات تدهور حادة، فقد ظل عدد مطالبات التأمين ضد البطالة مستقراً في عام 2023 في متوسط أسبوعي يبلغ حوالي 225 ألفاً، وهو لا يختلف كثيراً عن متوسط 214 ألفاً المسجل في عام 2022. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر إحصائيات الفصل من العمل في استطلاع فرص العمل ودوران العمالة أن متوسط الاستغناء الشهري عن الوظائف هو أقل من العام الماضي. بشكل عام، لا يزال سوق العمل داعماً للاستهلاك الأسري.
ثانياً، تدعم الميزانيات العمومية القوية للأسر استمرار قوة الاستهلاك. وتمتلك الأسر كمية كبيرة من الأموال التي ستسمح لها بدعم الإنفاق الشخصي حتى الربع الأخير من العام الجاري على الأقل. خلال جائحة كوفيد، جمعت الأسر مدخرات بمعدل غير مسبوق. حدث هذا بسبب انخفاض الإنفاق نظراً لإغلاق الاقتصادات وفرض إجراءات التباعد الاجتماعي، جنباً إلى جنب مع حِزم التحفيز الحكومية الفيدرالية التي ضخت 5 تريليون دولار أمريكي في الاقتصاد من خلال مجموعة من المزايا والإعفاءات الضريبية وشيكات التحفيز.
مع زيادة المدخرات الشخصية بطريقة غير عادية أثناء الجائحة، يمكن تفسير الاختلاف مع اتجاه ما قبل الجائحة على أنه "فائض المدخرات". في الفترة التي بدأت في فبراير 2020 وحتى أغسطس 2021، وصل المخزون المتراكم من المدخرات الفائضة إلى ما يقرب من 2 تريليون دولار أمريكي. في هذه المرحلة، بدأت الأسر في استخدام مدخراتها الفائضة، وحتى أبريل من عام 2023، بلغ حجم السحب الإجمالي حوالي 1.7 تريليون دولار أمريكي. وهذا يعني أن حوالي 300 مليار دولار لا تزال متاحة.
تشير التقديرات، بالنسبة للأسر ذات مستويات الدخل المختلفة، ووفقاً للافتراضات البديلة، إلى أن الأسر تملك أموالاً كافية لدعم الإنفاق حتى الربع الأخير من عام 2023، مما يمنع أي تراجع حاد في الاستهلاك.
بشكل عام، يظل الاستهلاك الأسري أحد أقوى القطاعات في الاقتصاد الأمريكي، مدعوماً بأسواق عمل قوية وميزانيات عمومية قوية، مما يدعم وجهة نظرنا بأن الاقتصاد يتجه نحو الهبوط الناعم. في العدد القادم، سنقوم بتحليل واستكمال توقعاتنا للاقتصاد الأمريكي من منظور المؤشرات القائمة على الأسواق.